الخميس، 20 يونيو 2013

خواطر مدرب (3)

عرض و تلخيص المدرب : عماد خليفة إدريس
كيف تصنع الحكومات الفاسدة جيوشا من المجرمين ؟
(دراسات في علم النفس الاجتماعي تبحث عن جواب)

كيف يمكن لأشخاص عاشوا حياة طبيعية و في كامل صحتهم النفسية ان يتحولوا الي مجرمي حرب و قاطعي طريق و منتهكي حرمات ؟ كيف يمكن لسلطة عليا ان يكون لها تاثير قوي بحيث تجعلهم يقومون باشياء تخالف ضمائرهم ، دينهم ، و ما تربوا عليه منذ نعومة اضفارهم ؟ أسئلة عديدة حيرت ذهن العالم ستانلي ميلجرام عندما حاول ان يضع تفسيرا لجرائم النازيين ضد الانسانية . في الستينات و السبيعنات من القرن العشرين قام العالم ستانلي بتجارب أطلق عليها في علم النفس الاجتماعي " تجار ب ميلجرام " محاولا ان يصل الي تفسير لتلك الطاعة العمياء لمراكز القوة ، و هل النفس البشرية الخيرة السوية يمكن ان تقاوم قوى الشر المسيطرة ؟

تتلخص التجربة في ان قام الباحث بالاعلان في احدي الصحف عن حاجته لمتطوعين لإجراء تجربة لقياس أثر العقاب على التعلم و طبعا لم يكن ذلك هو الهدف الحقيقي للتجربة ، و انما كان الهدف الحقيقي قياس مدي استجابة المشارك لأوامر المشرف.

كانت عينة البحث عشوائية و متنوعة من حيث الثقافة و العمر و مستوى التعليم . يتم ايهام الشخص الذي يتقدم للاختبار بأختياره عشوائيا مع شخص آخرمتقدم في السن هو جزء من الاختبار و يخبرونه ان شريكه في الاختبار يعاني من مشاكل صحية في قلبه و لكنها ليست خطيرة ، يوضع الشخصان في غرفتين منفصلتين و يتم الاتصال بينهما عن طريق استعمال ميكروفون و يزود المشارك باعتباره سيلعب دور المعلم في التجربة  بلوحة تحكم لمولد للشحنات الكهربائية بقوة متزايدة تبدا من 30 الي 450 فولت ، يفترض ان يكون موصولا بجسد المتعلم ، تقضي التجربة بان يسرد المعلم أربع مفردات ، ثم يقول مفردة خامسة و يطلب من المتعلم ان يختار المفردة الملائمة من المفردات الرابعة  للمفردة الخامسة حسب ترتيبها أ ، ب ، ج او د . و عندما يجيب المتعلم اجابة صحيحة ينتقل المعلم الي السؤال التالي ، و عندما يجيب المتعلم اجابة خاطئة يخبره المعلم بانه سيتلقي صدمة كهربائية بقوة و قدرها كذا ثم يضغط زر الصدمات في الجهاز الموجود أمامه. في حقيقة الأمر لم تكن هناك صدمات كهربائية و كان كل الأمر مفبركا ، و في الطرف الاخر لم يكن هناك أحد و انما كانت اجابات و ردود افعال مسجلة لشخص يصرخ من الألم ثم يطلب الخروج من الغرفة الان و انه لم يعد يستطيع الاستمرار و يقوم بالضرب على الجدار الفاصل بينه و بين المشارك ، ثم مع استمرار التجربة يختفي الصوت تماما و كأن المتعلم قد فقد وعيه أو مات . و عند تردد المشارك في الاستمرار كان المشرف على التجربة  يحاول تذكير المتعلم بقواعد التجربة و شروطها مستحثا اياه في الاستمرار حتى النهاية وفق التسلسل التالي:
ـ الرجاء الاستمرار.
ـ الاختبار يتطلب منك أن تستمر، استمر رجاء.
ـ من الضروري أن تستمر.
ـ ليس لديك خيار، يجب عليك الاستمرار.
إذا ظل المشارك عند رغبته في التوقف بعد ذلك، يتم وقف الاختبار، وإلا فإن قيامه بتوجيه الصعقة ذات الشدة 450 فولت يعتبر جرس النهاية للاختبار، ومع تنفيذ المشارك لها يتم التوقف .

قبل القيام بالتجارب قام ميلجرام باستطلاع للرأي لمجموعة من الخبراء و علماء النفس متوقعا نسبة الاشخاص الذين سيتسمرون في اجراء الاختبار حتى النهاية ، و قد اجمع الخبراء على ان النسبة لن تتجاوز 3%  و لكن النتائج التي توصل اليها كانت مفاجاة و مثيرة للدهشة و الاستغراب . بدا البعض في التشكيك في مغزي الاختبار عند مستوى 135 فولت ، لكنهم استمروا بعد أن تلقوا تطمينات تعفيهم من أي مسؤولية. بعض المشاركين راحوا يضحكون بانفعال شديد لدى سماعهم صرخات الألم الصادرة عن المتعلم  لقد استمر الجميع في التجربة  حتى مستوي 300 فولت قبل اعلانهم عن أي رغبة حاسمة في التوقف عن الاختبار  رغم كون الكثير منهم لم يكن مرتاحا و ابدى شكوكا تجاه الاختبار ، و وصل 65% من نسبة المشاركين الي نهاية الصعقة الكبرى 450 فولت . تم اجراء نسخ عديدة من الاختبار في مختلف بقاع العالم و قد ادت الي نتائج متشابهة .

يقول مليجرام: "النتائج كما تابعتها في المختبر مقلقة، إنها ترجح أن الطبيعة البشرية غير جديرة بالاعتماد عليها لتبعد الإنسان عن القسوة والمعاملة اللاإنسانية، عندما تتلقى الأوامر من قبل سلطة فاسدة. نسبة كبيرة من الناس مستعدون لتنفيذ ما يؤمرون دون أخذ طبيعة الأمر بعين الاعتبار، وبدون حدود يفرضها الضمير، مادامت الأوامر صادرة عن سلطة شرعية. إذا تمكن في هذا الاختبار مشرف مجهول، من أن يوجه الأوامر لمجموعة من البالغين لقهر رجل في الخمسين من عمره، وإخضاعه لصعقات كهربائية مؤلمة رغم احتجاجاته ومرضه لا يسعنا إلا أن نتساءل عما تستطيع الحكومات بما لها من سلطات أوسع بكثير أن تأمر به !! "

تجربة اخرى مشابهة قام بها العالمان تشارلز شيريدان و ريتشارد كينج لاعتقادهم أنه ربما بعض المشاركين في تجربة ميلجرام  أحسوا بان التجربة عبارة عن خدعة و ذلك بان قاموا بإعادة التجربة مع ضحية حقيقية هذه المرة ، حيث قاموا بتعريض جرو صغير لصدمات كهربائية ، طبعا لم تكن الصدمات متزايدة و انما تم ايهام المشاركين بانها متزايدة ، و ذلك كجزء من متطلبات اجتياز اختبار لأحد المقررات يقتضي من مجموعة من الطلبة فعل ذلك ، وجدوا ان 20 مشارك من أصل 26 أكملوا التجربة حتى النهاية ، و الستة الذين لم يستمروا كانوا جميعا ذكورا و يمثلون 46% من نسبة الذكور المشاركين في التجربة ، في حين استمرت جميع الطالبات و البالغ عددهن 13 طالبة بنسبة 100%  حتي نهاية التجربة رغم توترهن و انفعالهن بل و بكاء بعضهن !!!؟

و رغم الجدل الدائر حول اخلاقية مثل هذا النوع من التجارب ، حيث انها قد تؤثر على المشاركين فيها عند علمهم بالغرض الرئيسي منها ، و تعتبر غير مقبولة الآن و لايسمح بتكرارها نظرا لتعارضها مع اخلاقيات البحث العلمي ، الا انها تكشف جانبا بشعا من تلك النفس الشريرة التي تعيش في داخل كل واحد منا. لعل ذلك يعطينا تفسيرا لتلك الآلية العجيبة التي تجعل شعوبنا العربية تسحل بأيدي ابناءها في جيوش الحكومات ، و كيف فعلت كتائب القذافي كل تلك الفضائع و الجرائم ؟ و لعل ذلك يطرح سؤالا حرجا ، ماذا لو ان الثوار وقعوا تحت سيطرة سلطة فاسدة ، فهل سيفعلون مثل ما فعلت كتائب القذافي !!؟